من هو القاضي الذي أبكى صلاح الدين الايوبي على فراش موته؟!

من هو القاضي الذي أبكى صلاح الدين الايوبي على فراش موته؟! لنتذكر هذا العالم الفاضل الذي نسيه أغلبية المسلمون كما نسوا غيره من عظماء هذه الأمة! وكيف يُنسى كاتب ووزير القائد المظَّفر صلاح الدين الأيوبي الذي قال عنه:«ما فتحت البلاد بالعساكر إنما فتحتها بقلم القاضي الفاضل»؟! وكيف ينسى القائل: (سيفاً بالعراق ..وسيفاً بالشام) و (عكا عالة على الاسلام ان لم تقم بها بغداد) و (الصخرة المقدسة الآن بنا تستصرخ) و (إلى النجدة البحرية والاساطيل المغربية) و (على الدور بعد الستور وفي الشوارع بعد القوارع)؟! بطاقة هوية القاضي الفاضل: هو مجير الدين ابو علي عبد الرحيم بن القاضي الاشرف بهاء الدين أبي المجد علي بن القاضي السعيد أبي محمد الحسن بن الحسن بن أحمد بن الفرج بن أحمد اللخمي العسقلاني، أجمع اكثر المؤرخين في ايراد نسبه على أنه عربي الاصل، لخمي القبيلة/ مصري الدار/ ولد في مدينة عسقلان سنة (529 هـ / 1134م) ، فلقب بالعسقلاني، نشأ في اسرة عرفت بالحكم والقضاء والفقه والادب، وكان جده اول رجل في هذه الاسرة تولى القضاء، ورغم ذلك فان المراجع لم تذكر شيئاً عن دوره في القضاء ومكان عمله ولكنها ركزت على ما أحرزه والد القاضي الفاضل من شهرة في عمله قاضياً لمدينة بيسان، فقد وصف بالنزاهة واقامة العدل وميله إلى التحري عن الحقائق وهي صفات يجب ان تتوفر في القاضي، ولعل رفضه لقرار والي بيسان باطلاق سراح أحد الاسرى الكبار في الجيش الصليبي مقابل فدية مالية دليل على نزاهته لان في ذلك مصلحة عامة للمسلمين، أدت في نتائجها إلى إقالته من وظيفته ومصادرة امواله من قبل الفاطميين في مصر ((ولم يبق له شيء))، على حد قول المقريزي، وكان هذا السبب الرئيس لوفاته سنة (546 هـ/ 1151 م)، تاركاً وراءه ثلاثة أبناء هم عبدالكريم والاثير والقاضي الفاضل، تولى الأول منصب القضاء في مدينة البحيرة في الاسكندرية لكنه فشل في منصبه هذا ولم يتمكن من إقامة العدل وعزل عن القضاء، وكان شديد الميل إلى اقتناء الكتب، أما ألاخ الثاني للقاضي الفاضل فقد كان بعيداً عن شؤون الثقافة والادب مهتماً بجمع التحف والنوادر من الخواتم والمجوهرات وغيرها. ويظهر ان القاضي الفاضل كان اكبر من هذين الاخوين فاهتم منذ وقت مبكر من عمره بعلوم الفقه والادب وفنون الكتابة، فحفظ القرآن الكريم ودواوين من الشعر اهمها ديوان الحماسة الذي جمعه ابو تمام الطائي، واطلع في مدينة عسقلان على رسائل الحسن بن محمد بن عبد الصمد بن أبي الشحناء (ت 482 هـ / 1189م) الذي وصف بانه ((أحد البلغاء الفصحاء الشعراء )) والذي اشتهر بكتابة ((الاخوانيات)) وهي من الرسائل المرسلة الى الاخوة والاصدقاء. وقد حظي القاضي الفاضل باهتمام والده الذي أراد له ان يترعرع مع مجموعة من كبار العلماء كي تكون له همة عالية في تحصيل العلوم الفقهية والادبية فارسله الى مصر على عادة أرباب الدواوين في ذلك العصر، ولاشك ان القاضي الفاضل وجد ضالته في البيئة المصرية، لرغبته الشديدة في توسيع مداركه في حقول علوم الفقه والحديث فكان يحضر مجالس كبار شيوخ هذه العلوم امثال الحافظ ابي الطاهر احمد بن محمد الاصبهاني (ت 576 هـ/1180 م) والشريف بن محمد عبدالله بن عبدالرحمن الحضرمي (ت 589 هـ / 1193 م) والفقيه أبي طاهر اسماعيل بن مكي بن عوف (ت 581 هـ / 1185 م )، وابي عمرو بن سعيد بن فرج العبدري(ت 596 هـ / 1199 م )، كما انه استمع الى دروس الحافظ ابي قاسم علي بن الحسين بن عساكر قبل وفاته سنة (571 هـ / 1175 م) في دمشق / وابن عساكر هذا كان متضلعاً في عدة علوم منها الفقه والحديث والتاريخ والاهم من هذا ان القاضي الفاضل حقق امنيته في العمل في ديوان المكاتبات الفاطمي فتتلمذ على يد كبار كتاب هذا الديوان أمثال ابي الفتح محمود بن اسماعيل الفهري (ت 551 هـ / 1156 م) الذي لقب بذي البلاغتين لامتلاكه الموهبة البلاغية في النثر وفي نظمه للقصائد الشعرية التي وصفها القاضي الفاضل بأنها محكمة النسيج، كما نال القاضي الفاضل اعجاب الموفق بن الخلال كاتب الديوان الفاطمي الذي وصفه العماد الكاتب بان له ((قوة على الترسل يكتب كما يشاء)) فتأثر به القاضي الفاضل وأفاد من علمه ولازمه إلى (( ان طعن في السن)) وظل يراعي ((حق الصحبة والتعليم فكان يجري عليه ما يحتاج))، ثم اصبح نائباً عنه في ديوان المكاتبات الفاطمي، ثم كاتباً فيما بعد لديوان الانشاء في مدينة الإسكندرية، ولانعلم الأسباب التي دعت إلى نقله إلى هذه المدينة سوى الإشارات التي اوضحت نجاحه في مناظرة قاضيها مكين الدولة أبي طالب احمد بن حديد وتفوقه على منافسيه في فنون الكتابة التي سببت له مشاكل كادت أن تبترمنها يده ويقال من وظيفته لولا تدخل الاثير بن بنان الانباري. (ت 596 هـ / 1199 م) أمين الديوان الفاطمي في الدفاع عنه ودفع التهمة الموجهة إليه، وكانت هذه من بين الدوافع التي جعلته محط أنظار الآخرين، لذلك تحسن موقفه حين تولى العادل بن رزيك الوزارة في مصر سنة (549هـ / 1145م) فأعيد إلى القاهرة كاتباً في ديوان الجيش، ويظهر ان قرار إعادة القاضي الفاضل كان من أفضل القرارات التي أصدرها العادل بن رزيك حسب قول عمارة اليمني الذي أشاد بهذا القرار في قوله ومن (( ومن محاسن ايامه وما يؤرخ عنها … خروج أمرهِ إلى والي الاسكندرية بتسيير القاضي الفاضل … واستخدامه في حضرته)). ومما لا شك فيه أن القاضي الفاضل برع في منصبه الجديد هذا وأثبت كفاءة في عمله كاتباً لديوان الجيش ونال استحسان مرؤوسيه، فتولى رئاسة ديوان المكاتبات الفاطمي بعد وفاة شيخه الموفق بن الخلال سنة (566هـ / 1172م))، وتمكن من إقامة علاقات وثيقة مع كبار رجال الدولة في مصر وخاصة الأيوبيين الذين بدأ نفوذهم يتوسع على حساب الفاطميين، وقد ساهم القاضي الفاضل مع الأيوبيين في ((ازالة الدولة الفاطمية))، ولعل ميوله هذه للايوبيين قد ساهمت فيها عدة عوامل أهمها إدراكه رغبة المصريين في مناصرة الايوبيين لتخاذل الفاطميين في الدفاع عن مصر أمام العدوان الصليبي، كما كان الفاطميون وراء وفاة والده ومصادرة أمواله كما أشرنا، فضلاً عن ذلك فان الدولة الفاطمية أصبحت في أيامها الأخيرة ضعيفة بحيث ان ازالتها لم تكن من الصعوبة ولم ينتطح فيها عنزان على حد قول ابن الأثير . إن مساهمة القاضي الفاضل في تغيير الاوضاع السياسية في مصر كانت من القضايا الخطيرة في حياته السياسية والعلمية لأنها فتحت له آفاقاً جديدة بل أصبحت منزلته عالية ومكانته رفيعة، وأصبح الرجل الثاني في دولة صلاح الدين بحيث ((تمكن منه غاية التمكن)، وكان صلاح الدين ((لا يصدر أمراً إلاّ عن مشورته)، لذلك أشاد ياقوت الحموي بحنكته السياسية حينما قال ((إن الدنيا تدبر برأيه)) ورغم المبالغة في هذا القول إلا انه دليل يرجح عقلية القاضي الفاضل ونجاحه في المساهمة في قيادة الدولة الايوبية. وبناءً على ذلك أعترف صلاح الدين صراحة امام الناس بالجهود الكبيرة التي بذلها القاضي الفاضل في تثبيت أركان دولته فقد قال مثمناً تلك الجهود ((لا تظنوا ملكتُ البلاد بسيوفكم بل بقلم الفاضل). وللقاضي الفاضل دور مهم في إثراء الحركة الثقافية في بلاد الشام ومصر والجزيرة اذ كان واسع الإطلاع غني المعرفة على مستوى رفيع من الثقافة والأدب والتمسك بعروة الدين، وكان مجلسه ملتقى العلماء والفقهاء والخطباء والأدباء والشعراء حافلاً بالبحث والتحقيق والمناظرات في مختلف انواع العلوم، وكان شديد الميل إلى تلك النخب العلمية التي كانت تقصده ملتمسة منه العون والمساعدة حتى قيل ان المساعدات المالية بلغت قيمتها في عصر صلاح الدين ثلاثمائة ألف دينار شهرياً خصصت للعلماء على شكل رواتب شهرية وإقطاعات . وانسجاماً مع تطلعات القاضي الفاضل وابداعاته التي دلت على رجاحة عقله وحسن تدبيره وسعة اطلاعه يمكن القول أنه يمثل مدرسة فاضلية في علومه وأخلاقه، فمدحه الكثير من الشعراء أمثال عمارة اليمني وأبي الحسن بن الذروي والتاج أبي الفتح البلطي والقاضي هبة الله بن سناء الملك كما مدحه شعراء آخرون لا يمكن إحصاؤهم في هذا المكان حتى أن العماد الكاتب قد أحصى عدد الأبيات الشعرية التي مُدح بها القاضي الفاضل وقدرها ((بمائة ألف بيت من الشعر). ولعل أجمل ما قيل فيه هذان البيتان للحسن بن إبراهيم الجويني وهما: لولا إنقطاعُ الوحي كان مُنزَّلاً في الفاضلِ بِنْ عليًّ البيساني نُثني عليه بمثل ما يثني على أفعالهِ المَرضِيَّة المَلَكـــانِ كما افاض العلماء في الإشادة به فذكر العماد الكاتب أنه كان ((صاحب القرآن العديم الاقران وأوحد الزمان العظيم الشأن ))، وقد وصفه البغدادي بأنه ((كان ضعيف البنية رقيق الصورة له حدبة يسترها الطيلسان … نزيهاً عفيفاً قليل اللذات كثير الحسنات دائم التهجد). اما نشاطه العلمي وابداعاته في فنون صناعة الإنشاء والكتابة فمن المفيد أن نذكر النصوص التي ذكرها المؤرخون والأدباء في ترجماتهم له، فقد أطلق عليه عمارة اليمني أنه ((شجرة مباركة متزايدة النماء أصلها ثابت وفرعها في السماء تؤتى أكلها كل حين بأذن ربها)، وجعل العماد الكاتب نزعته الأدبية نموذجاً جديداً في صناعة الكتابة لعصره فوصفها بالشريعة ((المحمدية التي نسخت الشرائع ورسخت بها الصنائع ))، وأكد العماد في موضع آخر أن القاضي الفاضل ((رب القلم والبيان واللسن واللسان)، أما ياقوت الحموي فقد أشار إلى انه ((صاحب البلاغة والإنشاء التي أعجزت كل بليغ) ووصفه أبن الأثير بأنه كاتب فذ ((لم يكن في زمانه أحسن كتابة منه) كما جعله أبن تغري بردي ((إمام عصره ووحيد دهره)، وكان لأبن خلكان رأي مطابق للآراء السابقة حينما جعله في مصاف المتقدمين في صناعة الانشاء ولم يكتف القاضي الفاضل ببراعته في فنون الكتابة ومساهماته العلمية المختلفة بل كان شأنه شأن كبار رجال عصره في المنافسة على تشييد المدارس ودور الحديث والمكاتب والربط والزوايا فقام بتشييد مدرسة في القاهرة وأفتتح التدريس فيها سنة (580هـ/1184م )، وقد وصفت هذه المدرسة بأنها من أجل مدارس مصر التي تُدرس فيها العلوم الشافعية والمالكية والحق بها مكتباً لتعليم الأيتام، كما احتوت هذه المدرسة على مكتبة تضم مجاميع كبيرة من الكتب ويظهر ان اكثر هذه الكتب أشتراها القاضي الفاضل من خزانة القصر الفاطمي عند أنقراض الدولة الفاطمية غم انه كان يبحث عن الكتاب ((من أقاصي البلاد وأدانيها)) وذكرت المراجع انها كانت تحتوي على مائة ألف كتاب مجلد إضافة إلى مكتبته الخاصة التي قدَّر عدد كتبها بمائة وعشرين ألف كتاب مختلفة الانواع حتى قيل ان عدد نسخ الكتاب الواحد يصل إلى خمس وثلاثين نسخة، كما هو الحال في كتاب الحماسة. وإتماماً للفائدة العلمية من هذه الكتب فقد خصص القاضي الفاضل لها نساخاً لا يفترون ومجلدين لا يسأمون، لغرض ادامتها وتوزيعها على طلبتها مما يعكس الجو الثقافي العلمي المتقدم الذي عاصره طلبة القاضي الفاضل . أما شخصية القاضي الفاضل الاجتماعية فقد تميزت بأيثاره لكبار رجال البيوتات الغرباء والمحتاجين وزيارة المرضى والقبور وتشييع الجنائز والصفح عن المسيئين، ولم يكن له خدم سوى غلام واحد في صحبته وكانت ملابسه لا تساوي دينارين رغم كثرة وارداته السنوية البالغة اثنين وستين الف دينار عدا تجاراته الواسعة في الهند والمغرب العربي، كما أنه خصص جزءاً من ايراداته على شكل أوقاف تنفق على طلبة العلم والفقراء وأسرى المسلمين . وأخيراً فان القاضي الفاضل فقد مركزه السياسي والاداري بعد وفاة صلاح الدين سنة (589هـ / 1193م) واشتداد الصراع السياسي بين أبناء أسرته فلم يرق للقاضي الفاضل المقام في دمشق، فذهب إلى مصر تاركاً وراءه السياسة والحكم خاصة بعد أن أصبح الملك العادل طرفاً في هذا الصراع ضد أبناء أخيه صلاح الدين فتاقت نفس القاضي الفاضل إلى الموت قبل ان يشهد المزيد من المنازعات والانقسامات السياسية لأن أركان تشييد الدولة الايوبية وبنائها لا تزال ماثلة في شخصيته فلم يسعه أن يرى دمارها وانحلال وحدتها، وكانت هذه من بين أهم اسباب وفاته في يوم الاربعاء السابع من ربيع الأول سنة (596هـ/1199م) وهو اليوم الذي دخلت فيه جيوش الملك العادل مصر ودفن في سفح المقطم وكان لوفاته وقع شديد وحزن عميق في نفس العماد الكاتب الذي عبر عنه أصدق تعبير بقوله ((في هذه السنة تمت الرزية الكبرى والبليه العظمى وفجيعة أهل الفضل بالدين والدنيا وذلك بانتقال القاضي الفاضل من دار الفناء إلى دار البقاء)، وقد شاهد ابن خلكان رقعة من الرخام وضعت على قبره كتب عليها ((وكان من محاسن الدهر وهيهات أن يخلف الزمان مثله)). صفاته: كان القاضي الفاضل ضعيف البنية له حدبة في ظهره يخفيها بالطيلسان كان عالي الهمة كثير الاشتغال وافر العقل مع الرياسة التامة والإغضاء والصفح والحلم والستر، ومع كثرة أمواله كان مقتصداً في ملبسه وطعامه وكان متقشفاً ورعاً كثير العبادة يواسي الناس ويخفف عنهم ويقضي حوائجهم، فلم يبق في مدة حياته عملاً صالحاً إلا قدمه، فصنائعه كثيرة وأوقافه على طريق الخيرات لا يحوطها حصر ولا يضبطها حساب ولاسيما أوقافه لفكاك أسرى المسلمين، وقد بنى مدرسة للفقه وكُتَّاباً للأيتام، وغير ذلك كثير. رسائل القاضي الفاضل للسُلطان صلاح الدين الايوبي: تحدثت المراجع التاريخية عن الحقبة الخاصة بالغزو الصليبي للوطن العربي كثيرة، وتكمن أهمية هذه المراجع في معايشة مصنفيها لتلك الأحداث من الناحيتين الزمانية والمكانية وفي مقدمة هؤلاء المصنفين القاضي الفاضل الذي يعد المستشار الأول في دولة صلاح الدين ومن كبار رجال دولته وأقدم الكتاب فيها وممن ساهموا في تكوين سلطان صلاح الدين ونفوذه ولمس عن قرب تلك المواقف والأحداث بل برزت مواهبه السياسية والادبية من خلال صناعته للقرارات فقد كان يكتب الوثائق ويبرم المعاهدات، وأرتقى في فنه هذا الى مصاف كبار الكتاب والأدباء وبرع في مراسلاته الى الملوك والقادة والوزراء وألامراء والقضاة وكان ذا تأثير كبير على كتاب عصره وأصبح أنموذجا يحتذى به في العصور اللاحقة له ومضربا للامثال حتى يمكن القول أن كتابات القاضي الفاضل يمكن ان نطلق عليها تسمية المدرسة الفاضلية في التزود منها بكل جديد في فنون السياسة والكتابة والبلاغة والاقتباس ، لهذا أصبحت أكثر المراجع حافلة بمراسلاته السياسية والادبية ، من جانب آخر كان الفاضل من ابرز شهود ذلك العصر من خلال الرسائل التي أنشأها عن نفسه أو بالنيابة عن صلاح الدين والتي أفاضت المراجع في النقل عنها أمثال ((البرق الشامي)) ((ومضمار الحقائق)) و ((الروضتين في أخبار الدولتين)) و ((مفرج الكروب)) و ((وفيات الأعيان)) ولكن لم يكن لرسائل القاضي الفاضل مرجع تاريخي خاصً بها عدا وجود نصوص منها في بعض المراجع، والعجب ان هذه النصوص ينسبها قسم من الباحثين إلى مراجعها دون الإشارة إلى اسم القاضي الفاضل فيها. واليوم يسرنا أن نقدم للقارئ الكريم هذه المجموعة من رسائل القاضي الفاضل التي تنشر لأول مرة والتي تشكل إحدى الوثائق الهامة التي دونت أحداث الغزو الصليبي ، والله ولي التوفيق. وصف المخطوطة ومنهج التحقيق هذه المخطوطة تضم عدداً من رسائل القاضي الفاضل وهي محفوظة في مكتبة أوقاف الموصل تحت رقم 1/9 وقد كتب على صدر الصفحة الأولى منها بخط لطيف مغاير لخط المخطوطة ما يلي ((من كتب الفقير اليه عَزَّ شأنه أبي بكر بن إبراهيم باشا 1194هـ))، وهذه المجموعة من الرسائل وضعت مع رسائل أبي بكر الخوارزمي، وقد أشار الناسخ إلى ذلك في الصفحة الأولى منها بخط شبيه بخط المخطوطة ما نصه ((مجموع فيه رسائل الأستاذ أبي بكر الخوارزمي مع رسائل القاضي عبدالرحيم بن علي البيساني وزير الملك صلاح الدين يوسف بن أيوب رحمهم الله رحمة واسعة)). وقد جاءَ في الصفحة الثانية منها مقدمة الناسخ كتب فيها بعد البسملة ((الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد وآله وصحبه أجمعين وبعد فهذا المختار من ترسيل القاضي الأجل الفاضل عبدالرحيم بن علي البيساني وزير الملك الناصر صلاح الدين الأيوبي رحمهما الله تعالى رحمة واسعة آمين)). وهو مكتوب بخط تعليق لا يخلو قسم منه من صعوبة في القراءة ويرجع تاريخ نسخهِ إلى سنة (1149هـ/1736م) كما أشار الناسخ في أخر ورقة منها؛ ويبلغ عدد أوراق المخطوطة (155) ورقة بحجم (20سم × 10سم) وعدد سطور الورقة (21) سطراً ويحوي السطر الواحد منها على (11) كلمة تقريباً. ويظهر ان الناسخ اعتمد في نقلها على نسخة الأصل أو نسخة قريبة من عصر القاضي الفاضل لدقة النصوص الواردة فيها كما اتضح أثناء التحقيق من خلال مقارنة نصوصها مع بعض المراجع التي نقلت عنها ، ومما يلاحظ في هذه المخطوطة أيضاً ما فيها من تقديم وتأخير لبعض الرسائل وبعبارة أخرى فأن الناسخ لم يراعِ تنظيم هذه الرسائل حسب أسبقيتها التاريخية فقد بدأها برسالة مرسلة إلى مركز الخلافة العباسية في بغداد يرجع تاريخها إلى سنة (587هـ/1191م) ثم أردفها برسائل أخرى مثيلة لها بتواريخ مختلفة، ويبدو أن الناسخ كان يراعي أهمية الموضوع في ترتيبه للرسائل إلى حد كبير لهذا كانت الرسائل المرسلة إلى بغداد تأتي في مقدمة ترتيبه لهافي حين جاءقسم من هذه الرسائل مضطربا من غير ترتيب ، فقمنا بإعادة ترتيبها حسب قدمها الزمني وأهمية موضوعاتها وفق المنهج الذي كان يراعيه الناسخ ووضعنا الرسائل المختلفة المواضيع والمهملة التواريخ بعد تلك الرسائل. وهنا لابد من الإشارة إلى ان رسائل القاضي الفاضل كثيرة ومختلفة الموضوعات ومن الصعوبة الإطلاع عليها كلها رغم مراسلاتنا للمكتبات المحفوظة فيها مثل مكتبات جامعة لندن وكمبردج والمتحف البريطاني والفاتيكان وباريس وميونخ ودار الكتب والمكتبة الأزهرية في مصر عدا الرسائل الموجودة في داربغداد للمخطوطات التي تحمل رقم 39535 والتي اطلعنا عليها وأتضح أنها لاتمتّ بصلة في موضوعاتها إلى نسخة مخطوطتنا شأنها شأن الرسائل المنشورة في (الدر النظيم من ترسل عبد الرحيم) التي عكف على جمعها محي الدين بن عبد الظاهر وحققها الدكتور أحمد بدوي ونشرت عام 1959 في القاهرة وهي الأخرى بعيدة عن التطابق مع المخطوطتين المشار إليهما وهذا يعني تنوع رسائل القاضي الفاضل وكثرتها ونستطيع أن نستشف ان المخطوطات الموجودة في المكتبات العالمية قد تكون هي الاخرى غير متطابقة في مادتها مما يجعل أكثر الباحثين لا يميلون إلى تحقيقها قديماً وحديثاً لما تكتنفه من صعوبات في توثيقها وقراءة نصوصها، فقد جرت عدة محاولات لتوثيق هذه الرسائل أهمها محاولة العماد الكاتب في البرق الشامي التي أطلق أسم ((الفاضليات)) على قسمٍ منها لكن محاولته هذه ظلت قيد الدرس معللاً ذلك بضيق وقته، كما أن البنداري أساء أيضاً لهذه الرسائل حينما أختصر ((البرق الشامي)) فقد أعترف بأنه سلك طريق الاختصار في الرسائل الفاضلية التي وردت في ((البرق الشامي)) ، وصنف أسعد بن المهذب بن مماتي (ت 606 هـ / 1209 م)عدة مصنفات عن القاضي الفاضل لكن هذه المصنفات هي ألاخرى لم تصل الينا، وأطلع ابن العديم على مصنف تأريخي لمجريات الحوادث للقاضي الفاضل قسم منه بخطه والقسم الاخر بخط ابي غالب عبد الواحد بن الحصين الذي حاول اكمال ما شرع به القاضي الفاضل لكن هذا المصنف فقد كغيره من الكتب التي فقدت ، لذلك اكد كلود كاهن صعوبة جمع هذه الرسائل وتحقيقها، وان الالماني هلبك لم يستطع إكمال دراسته وجمعه رسائل القاضي الفاضل فاكتفى بنشره كتاباً تضمن فهارس لمخطوطات القاضي الفاضل في أوربا وما اقتبس منها في المراجع العربية ، كما ان لين بول وهاملتون جب كانا قد أكدا على أهمية رسائل القاضي الفاضل لكنهما لم يستخدما تلك الرسائل في مصنفيهما عن صلاح الدين سوى اقتباسهما المحدود من الأقسام المنشورة من هذه الرسائل في ((الفتح القسي)) و ((الروضتين)) و ((وفيات الاعيان)) وأهملا القسم المخطوط منها. وكانت هادية دجاني قد وعدت قراءها عام 1993 بأنها سوف تنشر مختارات من رسائل القاضي الفاضل لكن دراستها هذه ايضاً لم تصل الينا ونأمل ان تكتمل تلك الدراسة لتسد فراغاً في المكتبة العربية، وكان من بين المحاولات لجمع رسائل القاضي الفاضل محاولة الشاعر ابن سناء الملك (ت 608 هـ / 1211 م) إذ استطاع ان يجمع الرسائل الدائرة بينه وبين القاضي الفاضل وأطلق عليها ((فصوص الفصول)) لكن نطاق هذه المحاولة محدود لإهمالها أكثر رسائل القاضي الفاضل وتأكيدها على الرسائل الخاصة بينهما. أن الصعوبات التي واجهتها هذه النخب العلمية المعاصرة للقاضي الفاضل وغير المعاصرة في التوصل الى جمع رسائل القاضي الفاضل هي الاخرى جعلتنا غيرعازمين على نشر هذه الرسائل اليتيمة لكن جودة خط الناسخ للرسائل ومقارنة نصوص كثير من هذه الرسائل التي اقتبست منها في كتب المراجع التي سنشير اليها لاحقا، وفائدتها العلمية وعدم بقائها متروكة في زاوية مظلمة هيأت لنا الفرصة على نشرها. وفي ضوء ذلك نستنتج ان هذه المجموعة من الرسائل المحفوظة في مكتبة الأوقاف في الموصل السياسية منها خاصة ذات أهمية بالغة لاعتمادها من قبل المراجع المعاصرة لها التي استندنا عليها في تحقيق النص وأهم هذه المراجع هي ((البرق الشامي)) و ((سنا البرق)) و((مضمار الحقائق)) للأيوبي وكتاب ((الروضتين في أخبار الدولتين)) لأبي شامة ((ومفرج الكروب)) لأبن واصل الحموي ((وذيل مرآة الزمان)) لليونيني ((وصبح الاعشى)) ((ومآثر الإنافة)) للقلقشندي، وقد تطلبت مهمة التحقيق مجهوداً في مراجعة كثير من المراجع في سبيل البحث عن رسائل القاضي الفاضل كي نتوخى الدقة في مقارنة النصوص وتثبيت الفوارق بينها والتوصل إلى صحتها كما أشرنا إلى طريقة اقتباس المراجع من الرسائل الفاضلية سواء كان هذا الاقتباس حرفياً أم غير ذلك من تلاعب في النص بالاختصار او الحذف او التصرف فيه، كما هو الحال في المراجع التي اشرنا اليها قبل قليل ومن بينها سنا البرق الذي تعرض لإختصار البنداري وقد تم اكمال ما حذف من هذه النصوص في قسم من الرسائل وأثبتنا ذلك في حواشي الكتاب. كما نوهنا الى الكلمات التي كتبت خطأ في الرسائل التي وردت في المراجع والتي تغير معنى النص مثل كلمة (شرح) التي وردت في الرسالة (31) بينما وردت في كتاب الروضتين2/28 (سرح ) فهي تغير معنى الجملة والامثلة على ذلك كثيرة ،ولا يفوتنا أن نذكر ان قسما من هذه الرسائل لم نجد لها أصلاً في المراجع المتوفرة لدينا رغم أهمية هذه الرسائل التاريخية فهي تمثل إضافة جديدة قد تكشف الغموض عن كثير من الحقائق للباحثين في هذه الحقبة الزمنية لأنها تنشر لأول مرة فحاولنا جاهدينً التحري عن صحة نصوصها وقد كان الناسخ أميناً في نقله من النسخة التي توفرت لديه لأن مقارناتنا للنصوص التي اقتبست من هذه الرسائل في المراجع التأريخية قد أثبتت صحة ذلك، كما ان هناك اجزاء من هذه الرسائل نسبت الى العماد الكاتب في كتب المراجع وهي الرسائل رقم (29)و(34)و(63)و(106)في حين جاءت متكاملة في نسخة الاصل هذه على انها بقلم القاضي الفاضل ،ويبدو أن التشابه بين اسلوب الكاتبين ومكان عملهما في ديوان مكاتبات صلاح الدين سبب هذا الخلط في مكاتباتهما لهذا اكتفى الايوبي في مضمار الحقائق ص92المعاصر لهما عند الاشارة الى الرسالة رقم (29)بقوله بأنها مكاتبة سلطانية في حين اشار الى المكاتبات الاخرى باسم منشئها، كما ورد في الرسالة رقم (106) ابيات من الشعر نسبت في الروضتين 2/121 على انها من نظم العماد الكاتب فيما جاءت في سنا البرق 321 معنونة باسم القاضي الفاضل وهذا يعني ان الخلط بين اسلوب القاضي الفاضل والعماد الكاتب يرجع الى عصرهما. ونظراً لما تمتع به القاضي الفاضل من أسلوب في اختيار محسناته البلاغية في الألفاظ فقد فسرت معاني قسم من هذه الألفاظ ليستقيم المعنى فيها بعد الرجوع إلى قواميس اللغة العربية وأهمها لسان العرب لابن منظور. وإتماماً للفائدة العلمية فقد خرجت الآيات القرآنية ونسبتها إلى سورها ووضعتها بين قوسين للتنويه اليها لأن القاضي الفاضل قد غير ألفاظ قسم منها كشواهدٍ من القرآن الكريم، كما قدمت الإضاءات المناسبة للاستقصاء عن أسماء الأعلام والأماكن والبقاع الواردة في المتن وأثبت ذلك في حواشي الكتاب، فضلاً عن ذلك تم رسم الألفاظ بالطريقة المتعارف عليها في عصرنا مثل كلمات ((وصائل)) فقد كتبت في الأصل ((وصايل)) وهذا يعني أن الهمزة تحذف في كثير من الأحيان وتحول إلى ياء كما رسمت كلمة ((صلاة)) في المخطوطة هكذا ((صلوة)) و((ثلاثة)) ((ثلث)) ولقد أبحتُ لنفسي أن أصحح هذه الكلمات ولم أشر اليها في الهوامش لكثرتها ولكي لا اربك القارئ الكريم بها،لذلك استميح القراء والمطلعين عذراً لما فاتني من هفوة وسيكون ترحابي كبيراً بالنقد الذي يهدف إلى تقويم الخلل للوصول إلى الغاية المطلوبة خدمة لتراث أمتنا الكبير. وفي الختام أتوجه بالشكر الجزيل إلى الزملاء د0يونس حمش خلف ود0باسم ادريس ود0ناصر عبد الرزاق الملاجاسم الذين تقدموا بالمساعدة في قراءة مسودات هذه الرسائل فلهم مني الشكر والعرفان ، وأسال الله التوفيق والسداد. تصنيف الرسائل وأهميتها: يبلغ عدد الرسائل الموجودة في هذه المخطوطة (110) رسالة يمكن تقسيمها إلى رسائل سياسية واخوانية ووصفيةوأخرى متفرقة. يلاحظ ان اغلب الرسائل الواردة في المخطوط تنتمي إلى الفترة التاريخية الممتدة بين سنتي (568-589 هـ / 1172-1193 م) وهي الفترة التي شهد فيها العالم الإسلامي تغيرات سياسية كبيرة أهمها ظهور صلاح الدين الأيوبي في مصر وقضاؤه بشكل نهائي على الدولة الفاطمية وإعادته الخطبة للخلافة العباسية وتوسيع أركان دولته التي شملت بلاد الشام ومصر والجزيرة واليمن، وان أهميتها تندرج في طار تأكيدها على جملة خصائص هامة من بينها الرسالة رقم (9) التي أشار فيها القاضي الفاضل إلى اعداد الجيش السوداني في الدولة الفاطمية والبالغ مائة ألف رجل كما أوضح في نص هام أن النصارى أيضاً ضمن تشكيلات هذا الجيش وأن الجزية قد وضعت عنهم. كما أكدت هذه الرسائل اهتمام صلاح الدين المتزايد بتوحيد جهود المسلمين وإقامة الوحدة بوصفها شرطاً لنجاح الجهاد، وهي إحدى مستلزمات الرد الحاسم على التجزئة والتخاصم والتشرذم، كما أدرك صلاح الدين أن أمنيات المسلمين وأهدافهم لن تتحقق دون الولاء للخلافة العباسية لأن الخليفة هو الممثل الشرعي لوحدة المسلمين، لهذا أكد القاضي الفاضل وهو الناطق الرسمي باسم صلاح الدين في الرسالتين رقم (9) و (64) على أن بغداد هي((دار السلام)) وأن الخلافة العباسية هي ((بيضة الإسلام)) كما أدرك أن هذه الخلافة هي ((مأمل كل شكوى ومنتهى كل نجوى وبها يكشف الله كل بلوى)) وفي ضوء ذلك ميز القاضي الفاضل في الرسالة رقم (28) بين الموالي للخلافة والخارج عن سلطانها ورأى ان طاعة الخلافة ركن من ((أركان الإسلام)) وان الخارج عن طاعتها ((لا يموت إلا بعصيانها)) كما أوضح ان الخلافة العباسية تعد واجهة سياسية قوية تمتلك عناصر القوة من خلال امتلاكها سيفين ((سيفاً بالعراق … وسيفاً بالشام)) كما أكد القاضي الفاضل في الرسالة رقم (42) ان صلاح الدين هو عبدٌ من عبيد الخليفة ((يمتثل أمره ويأمر الناس بأمتثاله)) وخادم مطيع للخلافة، وأن هذا المبدأ الذي يؤمن به صلاح الدين يعّده ((طريقاً إلى الأسفار إلى بلاد الكفار)) والأساس في إعادة بناء ((الكلمة الاسلامية الواحدة) تحت زعامة الخليفة العباسي في بغداد كي تصبح ((الأمة مجموعة الشمل بإمامته)، كما أشار القاضي الفاضل في الرسائل رقم (62) و (63) و (64) و (65) إلى الفتور الذي أصاب العلاقات السياسية بين الخليفة الناصر لدين الله وصلاح الدين عقب معركة حطين . ورأى القاضي الفاضل أن السبيل إلى تحقيق وحدة كلمة المسلمين وإنهاء الاحتلال الصليبي لن يتحقق الا عن طريق إعلان مبادئ الجهاد التي كانت من بين الأسس التي ركز عليها في رسائله بل يمكن القول بأن هذه الرسائل لا تخلو منها رسالة من ذكر أو إشارة للجهاد عن طريق التذكير بآيات القرآن الكريم وأحاديث الرسول محمد (صلى الله عليه وسلم) من ذلك ما جاء في الرسالة رقم (43) التي أوضح فيها ان ((الجهاد جهادان جهاد يبذل فيه في الكافرون السلاح وجهاد يكف فيه عن المسلمين الاجتياح ))، وأن ((الإيمان كله قد برز إلى الشرك كله)) وأن مبدأ إقامة الجهاد يجب أن يتزعمه ملوك المسلمين وأمراؤهم أولاً لأنهم هم ((العُدَدْ والذخائر والامراء التي بها تنقاد العساكر)) وأن المسلم يجب أن يدرك أن عليه واجبات حقيقية لتنفيذ مبادئ الجهاد، وقد حدد القاضي الفاضل في الرسالة رقم (33) جزءاً من هذه الواجبات التي قال فيها أن على المسلم أن يجاهد ((بنفسه وماله وعسكره)) وأنه يجب أن يتعايش يومياً مع ((مشهد جهاده ولا يقعد عن محضره)) وهذه إشارة مهمة إلى ان الجهاد التزام ومعايشة ودعوة كبيرة للمشاركة والمساهمة في القضاء على الوجود الصليبي في المنطقة بكل ما يرفد التعبئة العسكرية من خلال الجود بالنفس والمال وما يستطيع المرء إليه سبيلا في تحقيق ذلك الغرض . ومن المفيد هنا أن نشير إلى ان مفهوم القاضي الفاضل عن الجهاد قد تبلور في فكره من خلال الغزو الصليبي للمنطقة وأنه قد شهد سقوط الدولة الفاطمية في مصر التي كان أحد أسباب سقوطها أنها لم تراعِ واجبات الجهاد بل أقامت علاقات مع الصليبيين للقضاء على الايوبيين، والأهم من هذا أن الصليبيين أهانوا مشاعر المسلمين ومقدساتهم، فقد أدرك القاضي الفاضل منذ وقت مبكر الأهداف الحقيقية التي تكمن وراء الحملات الصليبية بفهمه العميق لها ولمسبباتها المتبلورة في أفكار الغرب الأوربي والتي اتخذت من الدين ستاراً لتحقيق رغبتها في التوسع واحتلال الأرض وملكيتها، وهو جزء من برنامج صليبي يجب أن تحققه النصرانية في ابعاده السياسية والحضارية والدينية ضد المسلمين لأن هناك وقائع تاريخية ورثها المسلمون في تحقيق الغلبة على الصليبيين لهذا كان عليهم أن يستمروا بهذا الغزو مهما كلف الثمن، وفي ضوء ذلك أشار القاضي الفاضل إلى خطورة هجرة الصليبيين واستيطانهم في المنطقة وتأسيسهم كيانات سياسية في الرها وانطاكية وطرابلس وبيت المقدس لهذا ركز في إدراكه لمفهوم الجهاد على بناء القوة العسكرية لإنهاء الوجود الصليبي في المنطقة الذي يأتي في مقدمته تحرير بيت المقدس، فقد أكد في الرسائل رقم (42) و (43) و (57) و (97) بأن ((الصخرة المقدسة الآن بنا تستصرخ)) وأن ((المسجد الأقصى قد قرب أقصاه))، وحث المسلمين على مواصلة التصدي للصليبيين في ((النهوض إلى القدس)) والمساهمة الجادة في الجهاد ((وفتح البيت المقدس)) ، كما حذر القاضي الفاضل من مغبة التهاون في تنفيذ مبادئ الجهاد وأوصى بفرض العقوبات على المتخاذلين عنه. وفي ضوء ذلك كان القاضي الفاضل مطمئناً إلى إيمان المسلمين وقوتهم لتحقيق النصر ضد الصليبيين لذلك أكد في الرسائل رقم (42) و (43) و (57) و (97) ((بان الاسلام يقيم على الصخرة المقدسة)) وان الحديث عن تحرير القدس ((بمشيئة الله غير بعيد)) وان الله سبحانه وتعالى قد آذن ((في فتح البيت المقدس)). وبناءاً على ذلك انصبت أكثر رسائل القاضي الفاضل على خدمة المجهود الحربي كناطق إعلامي رسمي لجيش صلاح الدين من خلال تقديمه نماذج من المجاهدين المسلمين لإشاعة الأفكار التي تخدم التعبئة العسكرية الفردية والجماعية أمثال تقي الدين وفرخ شاه وتاج الملوك بوري وبهاء الدين قراقوش، كما أشار أيضاً إلى المتخاذلين من الأعراب لتعرية مواقفهم أمام عامة الناس وتحذيرهم من مغبة التعاون مع أعداء الإسلام. وقدم القاضي الفاضل إيضاحات هامة في الرسائل رقم (1) و (55) حول تعاون اليهود والنصارى ضد المسلمين كما أكد على التعاون الأوربي القائم بين الفرنسيين والرومان والإنكليز والصقليين في تكوين جبهة موحدة هدفها إنهاء الوجود الإسلامي في المنطقة فقد قال في الرسائل رقم (7) و (9) و (64) ان هناك جنسيات أخرى اشتركت في هذا الغزو وقد استشف ذلك من خلال لغات المقاتلين المتعددة التي كانت بحاجة إلى مترجمين كثيرين لفهمها . وبين القاضي الفاضل أيضاً نوعية الاسلحة المستخدمة من قبل الصليبيين وخططهم في المعارك وطرق قتالهم وعدد قتلاهم وميز بين فرسانهم ومقاتليهم ووسائط نقلهم أمثال الاسطول والسفينة والبطسة والشيني والكباشات والدبابات والبروج والمنجنيق والدروع والأقواس والاتراس وغيرها من المصطلحات التي كانت سائدة في عصره، كما أنه أوضح التحصينات الدفاعية للمدن وارتفاع أسوارها وحفر خنادقها ونوعية بنائها والثقوب المحتملة الاختراق في أسوارها، وأشار إلى النار التي كان صلاح الدين يوقدها كي يهتدي بها المقاتلون، كما عبر القاضي الفاضل في رسائله عن ابتهاجه بتحقيق النصر في ساحات الجهاد وأهمها النصر الكبير في حطين وتحرير بيت المقدس سنة (583 هـ / 1187 م) بعد احتلال دام حوالي تسعين عاماً والذي كان من نتائجه أيضاً تحرير مدن طبرية وعكا ونابلس والناصرة وصفورية والفولة والطور وحيفا وقيسارية. في حين عكست الرسائل رقم (67) و (68) الصعوبات التي واجهها صلاح الدين في مواجهة الحملة الصليبية الثالثة التي بذلت فيها أوربا جهوداً كبيرة لإظهار حماسها ضد المسلمين وكان القاضي الفاضل قد كتب رسالة إلى الخليفة الناصر لدين الله مستغيثاً به لانجاد مدينة عكا من السقوط بيد الصليبيين وكان القاضي الفاضل يرى أن الخلافة العباسية يجب أن تأخذ دورها وتؤدي واجبها وهو يتساءل عن الخلافة ((إن لم تكن للإسلام فلمن وان لم تغن عنه فلن)) كما يوضح بأن ((عكا عالة على الاسلام ان لم تقم بها بغداد)) فهي اذن ساقطة بيد الصليبيين لأن ((العدو قد استفحل امره واستشرى شره)، كما أظهر من خلال الرسالة رقم (65) التي أرسلها إلى ملك المغرب والتي أوضح فيها الحرب الدائرة داخل مدينة عكا وهي ما يطلق عليها اليوم بحرب الشوارع فهو يقول إن القتال اصبح ((على الدور بعد الستور وفي الشوارع بعد القوارع)) وأشار إلى ان قتال المسلمين أصبح مقتصراً على الهجمات على المدينة ومن ذلك وصفه لهذه المعركة بقوله ((بل نحن مكاننا ننتظر ان يبرزوا فنبارزهم ويخرجوا فنناجزهم وينتشروا فنطويهم)) كما أكد القاضي الفاضل لملك المغرب ان المسلمين في وضعهم هذا باشد الحاجة ((إلى النجدة البحرية والاساطيل المغربية)) لانهم ما زالوا يحتفظون بقوتهم بل يؤكد أن العزيمة والاصرار هو المبدأ الذي يقاتلون به ضد الصليبيين. وتأتي الرسائل رقم (4، 5 ، 6 ، 15) لتوضيح العلاقات السياسية بين الاتابكة وصلاح الدين وهي بمثابة بيانات سياسية أوضح فيها صلاح الدين رغبته وولاءه للبيت الاتابكي، كما أوضحت ان هناك فئة مقربة من الاتابكة لا ترغب في تقوية أواصر الجبهة الداخلية بين بلاد الشام ومصر والجزيرة بل كان هدفها ابقاء الصراع لإضعاف صلاح الدين لتحقيق مكاسبها الخاصة، لهذا يوجه القاضي الفاضل أصابع الاتهام إلى الاتابكة، باقامتهم علاقات مع الصليبيين والحشيشية بغية تحشيد الرأي العام الاسلامي ضدهم في الموصل وحلب . ومن الرسائل التي وردت في هذا المخطوط الرسائل الاخوانية التي كان القاضي الفاضل يرسلها إلى اصدقائه من العلماء والفقهاء والخطباء والقضاة والكتاب والشعراء وأهمها الرسائل التي أرسلها إلى العماد الكاتب والتي يبلغ مجموعها اكثر من ثماني عشرة رسالة والتي تضمنت موضوعات مختلفة في السياسة والإدارة والثقافة والاجتماع كما اهتم القاضي الفاضل بنوع من الرسائل الاخرى التي يطلق عليها الرسائل الوصفية والتي وصف فيها المعارك والحروب والقتلى وأدوات القتال ومواضيع أخرى مختلفة لا تخرج عن السياق العام لهذه الرسائل في إبراز النزعة الجهادية في منهجية القاضي الفاضل التي وظفها لتحقيق تعبئة الجيش في ساحات القتال. مصنفاته: يعد القاضي الفاضل من جملة العلماء الأفذاذ الذين اتقنوا فنون الكتابة والتأليف والتصنيف في الادب والتاريخ لهذا وصفه النويري بأنه ((كاتب الشرق والغرب) ورغم ذلك لم تشر المراجع التي ترجمت لسيرته ان له مصنفات في حقول الادب والتاريخ سوى ديوانه الشعري الذي طبع في القاهرة عام 1961 ، ورسائله التي سنشير اليها لاحقاً، كما أشار ابن خلكان بأنه اطلع على مصنف تاريخي للقاضي الفاضل ((رتبه على الأيام وهو بخطه يذكر فيه ما يتجدد كل يوم) وأكد ان مسودات رسائله ((في المجلدات والتعليقات في الاوراق اذا جمعت ما تقتصر عن مائة مجلد)، وقد أفادنا المقريزي أيضاً بأنه اقتبس بعض نصوصه التاريخية من كتاب ((متجددات)) القاضي الفاضل و ((مياوماته)). ومن المفيد هنا ان نشير إلى ما أورده ابن خلكان والمقريزي حول تسمية مصنفات القاضي الفاضل لأدراكنا أن هذه التسميات المشار اليها متشابهة في محتواها اللغوي والعلمي فهي تعني ان للقاضي الفاضل مصنفاً تاريخياً يذكر فيه ما يتجدد كل يوم أطلق عليه المقريزي أسم ((مياومات)) وهو على شكل ((تعليقات)) وهذا يجعلنا نقرر ان هذه التسميات هي مصنف تاريخي واحد اتخذ فيه القاضي الفاضل طابع المذكرات المهنية اليومية وأن ((المجلدات)) التي أشارت اليها المراجع دون اعطاء صورة عن محتواها العلمي، والبالغ عدها أكثر من مائة مجلد هي ((الرسائل))نفسها التي حفظت في ديوان الإنشاء الفاضلي على شكل مجلدات فسميت بهذه التسمية، كما أطلق عليها ((المسودات)). والذي يؤكد هذه التسمية النص الذي اورده ابن خلكان حول مسودات القاضي الفاضل والذي أشرنا اليه قبل قليل، وهذه الاشارة واضحة على ان المسودات هي الرسائل نفسها المحفوظة في المجلدات وأن التعليقات كما اشرنا هي عين ذلك وأن الصلة في هذه العناوين هو التشابه في موضوعاتها التاريخية وتسميتها وأن انشغال القاضي الفاضل بأمور السياسة والحكم لم تهيئ له الفرصة في تهذيب مصنفاته ومراجعتها بشكل كاف فتركت على شكل ((مسودات)) قابلة للتغير والتجديد والإضافة لأن القاضي الفاضل كان كاتباً متجدداًً شديد العناية بمصنفاته التي كانت بأشد الحاجة إلى التجديد والتوثيق ونشرها في الاوساط الثقافية لعصرها لذلك فان اكثر كتب المراجع اقتبست نصوصاً من رسائله على أنها وثائق ذات طابع رسمي وأهملت بقية مصنفاته الأخرى لتشابه محتواها التاريخي، كما ان الرسائل أيضاً كانت نسخاً فريدة قابلة للتلف والضياع ومن الصعوبة الحصول عليها وهذا ما اشار اليه أبو شامة حينما واجه صعوبة في الحصول على الرسائل المرسلة إلى ملك المغرب وأكد ذلك ابن خلكان مشيراً إلى ان رسائل القاضي الفاضل ((قليلة الوجود في أيدي الناس )) وبالأخص الرسائل المرسلة إلى الخليفة الناصر لدين الله العباسي في بغداد كما أكد ان النسخة التي نقل منها كانت تالفة (( وقد اجتهد على تصحيحها))، كما أن القاضي الفاضل نفسه حاول رمي رزمة مسوداته في البحر اثناء سفره من عسقلان الى الاسكندرية كان يدرك ان مصنفاته قابلة للضياع لإهماله لها ،لذلك جعل العماد الكاتب جمع رسائل القاضي الفاضل من المشاريع الكبيرة التي يأمل ان يقوم بها حال توفر الفرصة السانحة له للقيام بمثل هذه المسؤولية الكبيرة لكن أمنيته هذه لم تتحقق كما أشرنا فيما سبق، وفي ضوء ذلك نستنتج أن مصنفات القاضي الفاضل لم تأخذ نصيبها من الانتشار في عصرها سوى رسائله السياسية باعتبارها وثائق ذات طابع رسمي والتي طغت على جهوده العلمية الأخرى. المصادر: - رسائل القاضي الفاضل، المحقق الدكتور علي نجم عيسى. ـ الذهبي، العبر، تحقيق فؤاد سيد (وزارة الإعلام، الكويت 1984). ـ أبوشامة المقدسي، كتاب الروضتين في أخبار الدولتين, تحقيق إبراهيم الزيبق (مؤسسة الرسالة، دمشق 1997). ـ عبد الوهاب السبكي, طبقات الشافعية الكبرى, تحقيق عبد الفتاح الحلو ومحمود الطناحي (داره
هل أعجبك الموضوع ؟

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

تابعنا عبر البريد

المشاركات الشائعة

الـموضــوعـات الأكـثـر زيـارة

جميع الحقوق التقني المتخصص ©2012-2013 | ، نقل بدون تصريح ممنوع . Privacy-Policy| أنضم ألى فريق التدوين